top of page
صورة الكاتبالدكتور إبراهيم الديب

خطر العـولمة على الهويات الحضارية في العالم

الحلقة الثانية

مفهوم العولمة:

مفهوم جديد تمّ نحته وإنتاجه في أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين، يعبّر عن طريقةٍ في التفكير والتخطيط والعمل وعن رؤية كونية للعالم تتلاشى أمامها الحدود، وتنّتهك فيها الخصوصية للأقطار ــ عالم واحد ــ فهي تدعو في الظاهر الى حريّة نسبيّة في تداول كلِّ شيءٍ ماديّ ومعنويٍّ، بينما تُخفي في باطنها محاولة الهيمنة على الهُوية الحضاريةِ لكلِّ بلدٍ، والسيطرة على مقدراته.

في حين أنّ فكرة العالمية هي حقيقة كونيّة، وفكرة إسلاميّة أساسيّة، فالإسلام يدعو إلى عالميّة المعرفة والتنقّل والاقتصاد والتجارة والسياسة…

قال تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

أليست هذه الآيات دعوة صريحة الى عالمية القيم، المعايير، الأهداف، الاعتراف بالآخر، والاحترام، والإخاء، والتعاون الإنسانيّ، فقد قدّم الإسلام أفضل الأسس والمبادئ لإدارة الاختلاف والتنوع البشرى، كركيزة أساسية للمحافظة على الهُويات المحليّة للثقافات المختلفة، وللاستثمار الأمثل فيها، بغية الرقي المستمّر بالهوية الحضارية للإنسان كل الانسان.

ومع ثورة الاتصالات التي كان لها الدور الكبير في تقريب المسافات وتسريع التواصل بين الدول، حيث تحوّل العالم كلّه الى قرية صغيرة. وفي ظلّ التنافس المحموم بين القوى العالمية الكبرى، والرغبة الكبيرة في التمدد والسيطرة، فقد قدّمت الولايات المتحدة الامريكية تفسيرًا جديدًا للعالميّة، تحت مسمى العولمة، قاصدة به السيطرة على العالم وإلغاء الآخر كل الآخر.


العولمة نموذج للاستبداد العالمي، حيث قامت على تصميمه الإدارة الاستراتيجية الامريكية بغية السيطرة على العالم
العولمة نموذج للاستبداد العالمي، حيث قامت على تصميمه الإدارة الاستراتيجية الامريكية بغية السيطرة على العالم


فنظام العولمة كما طرحته الولايات المتّحدة الامريكية:

يمكن توصيفه بنظام (القيم والمفاهيم الأمريكية)، نظام موّحد المقاس واللون ليرتديه العالم كلّه وهو عبارة عن:

1ــ منظومة قيم الثقافة الخاصة بالأمّة الأمريكية فقط، كما تجسّدها العناصر الست الأساسية للهوية الامريكية: (1 /6 ــ أرض الوطن ــ 2 /6ــ الجنس الأبيض ــ 3 /6ــ الدين المسيحي البروتستانتي ــ 4 /6ــ التراث الليبرالي؛ القائم على التعددية السياسية ــ 5 /6ــ العداء للآخر ــ الحرب هي الأداة الرئيسة لتوسيع المجتمعات وفرض الخوف كمصدر للاندماج بديلا عن التماسك القبلي ــ 6 /6ــ أحقية القومية الامريكية بقيادة العالم، والسيطرة عليه حتى نهاية الحياة).

2ــ توظيف بعض الشعارات الغير حقيقية لإيهام الشعوب بحل مشاكلها، بينما وضعت أساسًا لتحقيق اهداف الأجندة الأمريكية مثل: (الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والأسرة الدولية أو النظام العالمي وغيرها). بهدف السيادة الأمريكية على العالم.

3ــ إلغاء الهُويات المحليّة للدول وبخاصّة الدول النامية، والسعي لدمجها في ثقافةٍ واحدة ٍ هي الثقافة الامريكية تحت مسمّى العولمة.

آليات تمكين ثقافة العولمة:

هناك مجموعة من الوسائل لتحقيق هذا الهدف يأتي في مقدمتها:

1ــ الآلة الثقافية والإعلاميّة لإقناع الناس بأن الامة الامريكية هي السيد المنقذ للعالم، وهي الداعم الأبرز للديموقراطية وللحريات في العالم.

2 ــ توظيف القوّة الأمريكية الناعمة لتحقيق هذا الغرض، وبخاصّة المساعدات الاقتصادية واللوجستية التي تقدّمها لنظم الحكم الموالية لها في الدول النامية.

3ــ توظيف المؤسسات الدولية لتحقيق هذا لغرض، وفي مقدمتها صندوق البنك الدولي، والذي يستخدم في إقراض الدول وإفقارها وتجويعها وتركيعها ووضعها تحت الوصاية الامريكية.

4ــ فرض العقوبات الامريكية على كلّ دولة تتمرّد على هذا النظام باسم العقوبات الدولية.

العولمة في الميزان:

أولاً: العولمة والإدارة الاستبدادية الفاسدة للهويات العالمية المتنوعة.

في حين أن القيم الإنسانية الثلاث الكبرى وهي: (تكريم الانسان، الحرية، العدالة) بطبيعتها تصنع ديناميكية إنسانية تدعو كل انسان ومجتمع الى المحافظة على خصوصيّته وذاته، وتطويرها بشكل مستمّر مع الاحترام والاعتراف والتعاون والتكامل النسبي مع الآخر ، بما يساهم تلقائيا وبشكلٍ مستمر في تطوير الهوية الحضارية للإنسان كل الانسان، بما يحسّن مستوى معيشته على هذا الكوكب.

بينما نجد المفهوم الأمريكي للعولمة يناقض القيم الإنسانية العالمية الثلاث الكبرى التي توافقت عليها البشرية، وأكدتها الرسالات السماوية الثلاث وهي: (تكريم الانسان، الحرية، العدالة) حيث يهدر نظام العولمة كرامة الانسان، بتحويله الى عبد يُستخدم لتحقيق مصالح الآخرين، كما تحرمه من حقّه في اختيار ما يعتقد وما يفضله من القيم والثقافة ونمط الحياة الذي يريد، كما أنها تَقطع الطريق وتمنع المجتمعات من حقها في الاستثمار والتنمية والاستفادة من مواردها بالطريقة الصحيحة.

فالعولمة تعنى الإدارة الاستبدادية الغاشمة والمدمّرة للقيم والهويات العالمية المتنوعة، إذ تدمّر الهويات الحضارية الاجمالية للعالم بأسره.

ثانيا: العولمة تناقض مفهوم تعدد وتنوع الهويات بل تلغيه، والذي يعمل بطبيعته الديناميكية الذاتية على تلاقح وتكامل وتطوير الهويات المحلية ــ وبخاصة للمجتمعات التي تمتلك وتجيد صناعة القيم والهوية، حيث تستفيد باستمرار من عناصر التميز والقوة في كافة الهويات العالمية المختلفة.

في حين فرض هوية عالمية واحدة على الكل تعنى عدم احترام الآخر بل الغاؤه، وتعبيده وصهره داخل الهوية الامريكية لكن بدرجة عبد وعامل ستخدم لتحقيق المصالح للسيد الأمريكي.

كما أنّها تعنى اختزال الآخر وإضعاف نمّو هويته.


والعولمة تعني تغليب وفرض هوية واحدة جبرا على العالم اجمع، على حساب كافة الهويات المحلية، في حين ان الهوية الحضارية للعالم تنمو بشكل مستمرّ بفعل تعدد وتنوع الثقافات، وبفعل الحراك والتدافع بين الهويات المحليّة المتنوعة التي تتلاقح فيما بينها لحساب الهوية الحضارية للإنسان كل الانسان.


ثالثا: العولمة تعدّ مفهومًا منافيًا للفطرة الإنسانية التي تقوم على الاختلاف والتنوع بين بني البشر على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، بداية من بصمة اليد والعين والصوت ووصولا الى تنوع الهويات الخاصة بكل مجتمع ودولة، وفي فلسفة ذلك حكم وفوائد كثيرة جدا لضمان استمرار نمو الحياة على كوكب الأرض.

إن فطرة التنوّع البشري تمنح البشرية محركا ذاتيا نحو التنافس والتلاقح والتكامل بحثا عن التميز الذي يمثّل البنية الأساسيّة لتطوير الهوية الحضارية المستمرة للإنسان والتي تعكس قدرته على عمارة الكون معنويا وماديا.

وتأتى العولمة كمفهوم ونظام مغلق لتقطع الطريق على هذا النموّ الحضاري الإنساني العام ولتئد فطرة التنوع، وتمنع فرص التنافس والتلاقح والنمو الحضاري المستمر.

العولمة نموذج للاستبداد العالمي، حيث قامت على تصميمه الإدارة الاستراتيجية الامريكية بغية السيطرة على العالم، فهو مشروع يتضارب مع الفطرة الإنسانية والهوية الحضارية الإنسانية أيضًا.

ويعزّز ذلك ويؤكده عدد من المؤشرات التي تكشف عن تراجع النظام القيمي العالمي الإجمالي، وعن التناقض والتشوّه الذي أصاب الهوية الإنسانية بشكل عام.

من ارتفاع لمعدلات الجريمة والازدياد المطّرد في النزاعات المسلحة، وارتفاع أعداد القتلى وزيادة نسب الفقر، وانخفاض منسوب الأمن والاستقرار العالمي، في ظلّ العولمة الامريكية، حيث لا تزال مستمرة في دعمها للنظم الاستبدادية القمعية وبخاصة في المنطقة العربية.


Comments


bottom of page