خصائص الشيء تكشف وتعبر عن قيمته، وآفاق استخدامه، ومن ثم كيفية الاهتمام والعناية به، فعندما يتعرف الإنسان على خصائص الأحجار الكريمة، سيدرك للوهلة الأولى قيمتها وقدرها، ومن ثم سيحسن المحافظة عليها والاعتناء بها، وكذلك عندما يدرك خصائص اليورانيوم المخصب والجهد العلمي ومراحل تصنيعه بالغة التعقيد، ومجالات استخدامه في صناعة القنبلة النووية، فإنه سيدرك أهميته وخطورته، ومن ثم سيتعامل معه، ويعتني به، ويلتزم بكافة تعليمات السلامة اللازمة في التعاطي معه.
في هذا السياق منح الله تعالى البشر قيمة كلية كبرى عليا هي قيمة الكرامة الإنسانية الوجودية، وجعل الله تعالى فيها أسرارا كبيرة لحياة وبناء ونمو ونهوض واستقرار المجتمعات والأمم، وجعل في غياب العناية بها، أسبابا لانهيار وهلاك المجتمعات والأمم، ومن عجائب الواقع أنه في مساحات زمنية ومكانية كبيرة من واقعنا نكاد لا نهتم بهذه القيمة الغالية، ولا نلتزم بمقرراتها، ونقبل الاجتزاء منها؛ بل والتفريط فيها، وأحسب أن جزءا كبيرا من أسباب ذلك يرجع إلى غياب الوعي بحقيقية ومكونات وخصائص وأبعاد تطبيق واستثمار قيمة الكرامة الإنسانية الوجودية.
أهمية التعرف على خصائص قيمة الكرامة الموجودة للإنسان أنها ستكشف لنا عن إجابات منطقية للأسئلة الكبرى المتعلقة بماهية وأهمية قيمة الكرامة الإنسانية، ومتى تم إقرارها؟ وكيف يتم تطبيقها؟ وماذا يترتب على الإنسان للمحافظة عليها والالتزام بها وتعليمها وتمكينها تربويا وقانونيا؟
خصائص لقيمة الكرامة الإنسانية
القيمة هي -بتسكين القاف وكسر الياءـ القيمة في ذاتها، والقيمة -بكسر القاف والياء- للإنسان بمعنى النافعة اللازمة لحياته واستقراره ورفاهيته، والتي عندما تقرر إلهيا في الوحي الإلهي تصبح قانونا وسنة كونية للحياة لاستمرار الحياة الكريمة للإنسان كل إنسان، وبموجب الكرامة الإنسانية ذاتها فللإنسان حرية اختيار مستوى الالتزام بها.
ولقيمة الكرامة الإنسانية خصائص مميزة لها عن بقية النظام القيمي الذي قدمه القرآن الكريم، والتي يجب أن نتوقف عندها طويلا لكشف أسبارها من فوائد وأبعاد وتطبيقات.
الكرامة الإنسانية الوجودية للإنسان منحة إلهية له
لا دخل لسوى الله تعالى بها، ومن ثم لا يحق انتزاعها أو النيل والانتقاص منها، حيث يعد ذلك تعديا على حق إلهي ممنوح للإنسان، ولذلك عندما يرتكب الإنسان جرما ما، فإنه يعاقب عليه وفق مقررات القانون بقدر جرمه مع المحافظة التامة على كامل كرامته الإنسانية، وعندما ينهي عقوبته يعود للمجتمع إنسانا طبيعيا كامل الكرامة، حيث لا تنتقص جريمته التي وفّى عقوبتها شيئا من كرامته الإنسانية.
قيمة الكرامة الإنسانية وجودية
يحصل عليها الإنسان بمجرد وجوده في الحياة، من لحظة بث الروح فيه برحم الأم، حيث تبدأ واجبات رعايته الطبية عبر العناية بتغذية وصحة ورعاية الأم الحامل به في بطنها، وكذلك حقوقه المالية والقانونية كحمل مستكن، وتستمر كرامته معه حتى يكرم عندما يموت ويغسل ويطيب ويكفن ويدفن بما يليق به كإنسان.
قوامها اصطفاء الإنسان
من بين المخلوقات حيث اصطفاه الله تعالى وأعلن ذلك في الملأ الأعلى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر: 28ـ31]، والله تعالى أعلم حيث يصطفي من خلقه ما يشاء، وفي هذا الاصطفاء حكم وأسرار كثيرة؛ لكن ما يبدو لنا نحن البشر من هذه الحكم هو ما حباه الله تعالى به من نعمة العقل، وامتلاك الإنسان لهذا العقل القادرعلى تعظيم قدراته وممكناته بشكل مستمر وتسيير بقية المخلوقات، بينما لا يتوفر ذلك في غيره من بقية المخلوقات؛ مما يوجب على الإنسان المحافظة الشديدة على هذا العقل من كل ما يضره، والعمل على تدريبه وتنميته وتعزيز وتعظيم قدرته على العمل والتفكير وتحصيل وإنتاج الأفكار والمعرفة بشكل مستمر.
مناطها اختيار وتعيين الإنسان مديرا
ومستثمرا وسيدا لموجودات وموارد الكون، قال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة) [لقمان: 20]، وقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا ركُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ) [يس: 71ـ73]؛ مما يستوجب على الإنسان الجد والاجتهاد في البحث والتنقيب عن أسرار ومكنونات الكون، والعمل على استثمارها على أفضل ما يمكن.
تستند قيمة الكرامة الإنسانية إلى عدد من الاعتبارات الحاكمة
أهمها محدودية فترة وجوده في الدنيا غالبا لأقل من 100 عام، تضعف فيها قوته البدينة تدريجيا بعد سن 40 مع عظم المهمة المكلف بها، وهي عمارة الكون، ودقة المحاسبة في الآخرة على ما قدم وأنجز؛ مما يتطلب المحافظة التامة على حرية الإنسان وطلاقة تفكيره وقدراته.
قيمة مركزية كلية كبرى
يتفرع عنها عدد من القيم الحضارية التي تشكل في مجملها منظومة من الحقوق الخالصة للإنسان، تحفظ وجوده، وتعزز فرصته في النمو، كما تؤسس لنظام اجتماعي قوامه التعايش والتساكن بين البشر، والتأسيس لمجتمعات بشرية حضارية مستقرة ومؤهلة للنمو الحضاري والاستقرار.
حق الحرية.
حق الاحترام.
حق الخصوصية.
حق المساواة.
حق العدالة.
حق التملك.
حق التزكية.
حق الاتصال المباشر بالله تعالى مالك الكون وحاكمه بدون وسيط.
تكريم شامل للإنسان
في جمال هيئته، وكمال مضمونه بالعقل، وفرصة التزكية الذاتية، والتكريم المعنوي بسجود الملائكة له، والتكريم المادي بتسخير الكون كله له، وبعظم المهمة التي كُلف بها.
فعظم المهمة يعبر عن عظم المكلف بها، وثقة المكلف عز وجل في الإنسان وقدرته على الهداية والاستقامة والفعل والإنجاز.
قيمة موثقة ومحفوظة
في كتاب الله تعالى لكافة الأجيال القادمة إلى قيام الساعة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، وفيه كل آيات التكريم والتكليف بمهمة الاستخلاف وعمارة الكون، بمعنى أنها لازمة لكل البشر في كل العصور لضمان بقاء حياة الإنسان إلى نهاية الحياة وقيام الساعة.
قيمة محفوظة بدعم فني توجيهي
تعاقبت به الرسالات السماوية الثلاث لضبط وترشيد وتحسين جودة حياة البشر في الحياة الأولى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء] تعترف وتتعاطى مع فطرة الإنسان دائم النسيان والطغيان والزيغ، وحاجته المستمرة للتذكير.
قيمة فاعلة في حياة الإنسان
حيث تضمن له المحافظة على كامل قدراته بدون اجتزاء أو تقييد، ومن ثم فرصته في التعبير عن نفسه والنمو والتطور المستمر.
فاعلة في حياة المجتمعات والأمم
في بناء مجتمعات يحترم أفرادها بعضهم بعضا، أي قابلة للتنوع في كل شيء مثرٍ في طبيعته للحياة الإنسانية، والتعايش والتعاون والتكامل والتراكم.
Comments