الماهية والأهمية والكيفية
أين ستكون في عام 2030؟ وعام 2050؟ عندما تطرح هذا السؤال على أحد أفراد الدول المتقدمة سيبادر بالإجابة الواضحة المحددة البينة وبتلقائية وكأنه يقرأ من كتاب أمامه، ذلك أنه يمتلك حلمه ويعيش به وله، بينما عندما تطرح نفس السؤال على أحد أفراد المجتمعات والدول النامية المتخلفة التي تفهم الدين فهما فسادا غير صحيح، سيتعجب منك ويبادرك الوعظ: قل لا يعلم الغيب إلا الله.. الأول قول هعمل إيه النهارده، ولو تبقى وقت أفكر في الغد.
شخصيا ألفت كتابا عن التفكير وصناعة العقول والتخطيط الاستراتيجي للمستقبل، وعنونته بصناعة المستقبل، حيث بادرني أحد العلماء الكبار متعجبا بأن المستقبل بيد الله تعالى، فأجبته: نعم، ومن الواجب علينا التفكير والتخطيط لصناعته.
خلق الله تعالى الإنسان لاستخلافه في الأرض برسالة ومهمة كبيرة هي رسالة الإعمار والإصلاح والبناء والتطوير المستمر. في هذا السياق ينقسم الناس إلى طبقات ومستويات مختلفة، كل بحسب حلمه وهدفه وعمله وبصمته العملية وإنجازاته في الحياة، لتحقيق هذه الرسالة الكبرى.
فهناك أصحاب الأحلام الكبيرة والبصمات المهمة في الحياة الذين أثروا ويثرون وسيثرون الحياة الإنسانية بأعمالهم وبصماتهم البنائبة والإصلاحية الواضحة الواسعة، مكانيا لتصل إلى كافة أركان كوكب الأرض وتتسع لتشمل الناس من كافة الأجناس، وتمتد عبر الزمان إلى يوم القيامة، ولهؤلاء أكتب وأتحدث.
أن يكون لك حلم كبير تعيش به وله، معناه أنك إنسان قيم وكبير بقيمة ومقدار هذا الحليم.
ماهية الحلم
الحلم هو ما يتمناه المرء ويصبو إليه، وتطورت صياغتة علميا وعمليا ليصبح في شكل الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، كبيرة وعظيمة القيمة، ووضعت لها عناصر ومكونات وشروطا ومعايير.
عناصر الرؤية الاستراتيجية للفرد والمؤسسة
تتكون الرؤية من خمس عناصررئيسية هي في حقيقتها إجابات لخمس أسئلة يتلمس ويحدد ويشق بها الفرد طريقه في فضاء المستقبل، ليجسدها خطوات عملية من العمل والإنجاز على أرض الواقع.
س1: ماذا أريد أن أكون في المستقبل؟ وما هو موقعي ومكانتي في المستقبل؟
س2: ما هو مجال التخصص الذي أعمل فيها وأركز عليه؟
س3: ما هي المواهب والمقومات الأساسية التي أمتلكها في هذا المجال والتخصص؟
س4: ما هي استراتيجية وطريقة وصولي لأهدافي في هذا المجال؟
س5: ما هي القيم الأخلاقية والمهنية التي يجب أن ألتزم بها حتى تساعدني على تحقيق حلمي؟
وبالإجابة المحددة الواضحة على هذه الأسئلة الخمسة، تتشكل لدى الفرد رؤية استراتيجية قابلة للترجمة إلى خطة عمل ووثيقة استراتيجية يُلزم الإنسان نفسه بالعمل بها حتى يتمكن من تحقيق أهدافه وحلمه.
أهمية الحلم
بمجرد أن يمتلك الإنسان حلما، ويترجمه إلى رؤية استراتيجية مكتوبة يتحول إلى إنسان جديد، ويتغير فهمه وتصوراته للحياة وعلاقتها بها، ويصبح لحياته معنى وسبب وهدف وأمل، حيث يبدأ في جني الكثير من الثمار التي يمكن تحديدها في التالي:
1- الإحساس بالحياة وأهميتها وقيمتها وضرورة المحافظة على الوجود فيها واستثمارها بأفضل ما يمكن.
2- امتلاك الأمل الكبير في المستقبل القادم.
3- التحول من أصفار البشر على جانبي طريق الحياة إلى رقم صحيح قابل للنمو والتضاعف في صناعة الواقع والمستقبل.
4- شحذ تلقائي للهمة والعزيمة، وتقوية ذاتية للإراداة على التفكير والعمل والمثابرة ومواجهة التحديات ومغالبتها.
5- الجدية في الحياة والاستثمار الأمثل للوقت وللموارد المتاحة، والبحث عن موارد جديدة وصناعة موارد متجددة.
6- الاكتشاف والاعتزاز المبكر بالذات الإنسانية، بالكشف الذاتي عن المواهب والقدرات الكامنة، وتفجيرها وتنميتها واستثمارها لتحقيق الحلم المنشود.
7- التركيز والانشغال بالحلم عما سواه.
8- الإانشغال بالمستقبل والعمل له باستمرار.
9- إعمال العقل باستمرار وتنمية التفكير، وتعزيز القدرة على إنتاح الحلول والمبادرات.
10- التحول المبكر إلى الاحتراف وإلى حالة إبداعية فاعلة في الحياة.
11- القدرة على اقتناص الفرص، بل وصناعة الفرص واستثمارها بشكل جيد.
12- الحصانة والحماية الذاتية والوقاية من مزالق الانحراف والتيه.
معنى ومخاطر أن يعيش الإنسان بلا حلم
معنى غياب الحلم والافتقار إليه أنه ما من أسباب للوجود في الحياة، وأنه لا أمل في المستقبل ولا معنى ولا قيمة للحياة، والمزيد من الرتابة والملل والفتور، وإهدار المواد والفرص المتاحة، وتسليم العقل وكامل الذات لرغبات ونزوات النفس والتيه في الحياة، والوقوف على حافة الانحراف والانهيار بشكل مستمر، يتبعها الضعف والتهميش والإحساس بالهزيمة والدونية في عالم دائم الحركة والنمو والتطور والتقدم.
آلية عمل الحلم
عندما يمتلك الإنسان حلما ويترجمة إلى رؤية استراتيجية حقيقية؛ يعني ذلك أنه حدد موقعه والنقطة التي يجب الوصول إليها، وبوصلة التحرك وكيفية الوصول إليها. بمعنى أنه سيتحرك من الحالي إلى المتاح ثم الممكن، ليتجاوزه وينتقل إلى المستحيل ليحققه واقعا وإنجازا عمليا، مثبتا ذاته وواضعا بصمته الخاص على مجال عمله وفي الحياة. وتلك هي أعظم أحاسيس ومتع الحياة، وأسباب تعظيم القيمة المضافة للإنسان في الحياة الدنيا المؤقتة على كوكب الأرض، ثم الحياة التالية الدائمة في جنة الخلد.
الدول الديمقراطية وصناعة الحلم
النظم الديمقراطية الحديثة التي تمتلك حلما للمجتمع والدولة وتسعى إلى تحقيقه بالنمو والصعود إلى مصاف الدول العالمية القوية المتقدمة؛ تهتم بتعليم أبنائها أن يكون لكل منهم حلم، وتعلمهم ذلك منذ نعومة أظافرهم وتربيهم وتدربهم وتساعدهم على ذلك، لتتحول حياة كل مواطن إلى قيمة كبيرة وجزء مهم من حلم المجتمع والدولة، ولتنتج المواطن القوي الفاعل المشارك في صناعة القرار والحياة، والقادر على تحمل مسئوليته في بناء وتطوير الدولة. ولذلك يتم تدريس ذلك في المراحل الابتدائية ليكتب كل تلميذ حلمه في الحياة، والذي يطوره باستمرار مع نضجه ذهنيا وتعليميا وعلميا.
الدول الاستبدادية المتخلفة ومحاربة ووأد أحلام أبنائها
ويختلف الأمر كثيرا بل وبشكل عكسي في الدول الاستبدادية التي تمتلك مشروعا واحدا لتمجيد الحاكم والمحافظة على حكمه حتى نهاية حياته ثم تسليم الحكم لأحد أبنائه من بعده، ولذلك لا بد من إنتاج شعب من الضعفاء العبيد الخدم مبتورب الأحلام والهمم والطموح للعمل كخدم في بلاط هذا الحاكم، كل في موقعه ومسماه الوظيفي؛ بداية من رئيس الوزراء حتى عامل النظافة وحارس الأمن مرورا بكل وظائف ومواقع العمل في الدولة. ولذلك فإن فكرة امتلاك حلم تعد من أهم الممنوعات التي يجرمها النظام السياسي والتعليمي والثقافي والديني الإعلامي، ويعد وأد أصحاب الأحلام وخاصة الموهوبين منهم من أهم وأولى وأوجب واجبات أجهزة الدولة، فالوحيد الذي له حق الحلم هو رئيس الدولة وأبناؤه.
في المقال القادم نتناول كيفية صناعة الحلم الفردي في دولة الاستبداد، وخصوصيته والتحديات التي تواجهه، وماهية وكيفية وأهمية الإصرار على امتلاكه وتحقيقه، لتخريج جيل من المبدعين الذين سيتولون مهمة التحرر من الاستبداد وولوج مسار التنمية والنهضة لشعوبنا ودولنا العربية.
Comments