الهوية هي دليل الوعي بالذات، وإثبات الوجود، وضمانة الاستمرار وإعلان تحرر المجتمع والدولة بإثبات شخصيته وهويته الخاصة المميزة عن غيره من البشر، كما أنها البصمة الحضارية الخاصة، والنصف الأول والأهم للأمن القومي للبلاد، حيث أن نظرية الأمن القومي تقوم على حماية هوية الدولة والمحافظة على وحدتها واحتشادها، واستقلالية قرارها وترابها الوطني، وحماية فرص التنمية.
ومن ثم امتلاك دولة ما لمشروع للهوية الوطنية يعني امتلاكها أربعة أشياء هامة:
1- مشروعا وطنيا للتنمية والنهوض في كافة مجالات الحياة وتأكيد وجودها وتطورها.
2- اعترافها بجميع المكونات الكائنة على أرضها وسعيها للإدارة المثلى للتنوع البشري لمكوناتها المجتمعية على قواعد الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة الكاملة، الضامنة لتحقيق الأمن والاستقرار المجتمعي.
3- القدرة على إدارة وتطوير السلوك والأداء المجتمعي وتحسين جودته باستمرار.
4- الحصانة الذاتية ضد أية اختراقات ناعمة لتهديد الأمن القومي للبلاد.
وعلى مدار التاريخ البشري كانت وما زالت الهوية هي أساس أي فعل بنائي وحضاري، بداية من الهوية الثورية التي تشكل الهوية الخاصة للثوار الأحرار وحركات التحرر الوطني للتحرر من المستبدين الطغاة، وصولا إلى بناء الدولة الحديثة، حيث تبني الأمم والحضارات على هويتها والتي تقوم عليها بقية مقومات الدولة، في متتالية سادسية تمثل معايير لقياس قوة الدولة الحديثة، حيث ترتكز قوة الدولة أولا على قوة الشخصية والهوية الخاصة للدولة، متجسدة في القوة البشرية للدولة والتي تحدد نظام أفكارها وقدرتهاعلى التفكير، ومدى اتساع فضاءات تفكيرها بالإضافة إلى قوتها الأخلاقية والسلوكية، وقدرتها على الأداء والإنجاز والانفتاح والتعايش الداخلي للتنوع المجتمعي، والانفتاح والتواصل والتكامل مع الثقافات والهويات الأخرى العالمية، والتي تنتج بعد ذلك القوة العملية والتكنولوجية للدولة، وتتبعها بتفجير قوتها الإنتاجية والاقتصادية ومن بعدها قوتها التسليحية والسياسية، وذلك ما أكده مالك بن نبي بأن الإنسان هو أساس أي بناء حضاري يمكن أن يتم.
في هذا السياق، تواجه المنطقة العربية التي تمثل قلب العالم ونقطة التمركز بين قاراته الست، والتي تمتلك رصيدا ثقافيا حضاريا ضاربا في أعماق التاريخ البشري معززا بالديانات الثلاث السماوية، بالإضافة إلى تمازجها حضاريا مع هويات الدول الاستعمارية التي استعمرت غالب دول المنطقة العربية.. تواجه هذه المنطقة تحديات ترقى إلى درجة المخاطر وتمثل تهديدا متنوعا لها يمكن إيجاز نتائجه المتوقعة على مجتمعات ودول المنطقة العربية في ما يلى:
1- تفكيك ما تبقى من قيمها وشخصيتها وهويتها الخاصة، وإحلالها ببدائل أخرى غريبة عليها وتضعف من بنيتها الثقافية وقوتها البشرية وقدرتها على والفعل والإنجاز.
2- التفكك والصراع البيني المفضي إلى الخراب والدمار.
3- تغييب الوعي الكامل بالذات الحضارية والتحول إلى قطعان بشرية تائهة تبحث عن ثقافة وهوية تتبعها وتعيش في ظلالها.
4- غياب الانتماء الوطني، والغربة في المجتمع، وموجات من الهجرة الجماعية عشوائية الأهداف، وما هي سوى الهروب من الواقع والبحث عن مأوى آمن، ووطن بديل.
5- تهديد الفناء من الوجود، بتغييب دولة تلو أخرى من خريطة الجغرافيا والتاريخ.
مفهوم تدافع الهويات
من الطبيعي أن يعتز كل مجتمع بثقافته وهويته الخاصة، والمكونة من هوية عميقة وأخرى ظاهرة:
- الهوية العميقة، المتمثلة في المعتقدات أو الأيديولوجيا التي يؤمن بها المجتمع، والقيم التي يتبناها وتراثه الذي يعتز به، ولغته التي يتمسك بها، وحلمه ومشروعه الوطني الذي سيحدد قيمته وموقعه في العالم.
- الهوية البصرية، والمتمثلة في العَلَم والنشيد الوطني والفلكلور الشعبي والزيّ الوطني والأكلات الشعبية، والتميّز المعماري والأماكن الأثرية والأعراف والتقاليد والاحتفالات الدينية الوطنية المختلفة، والتي تشكل في مجملها ثقافة ونمط حياة وسلوك المجتمع وممكانته على الفعل والإنجاز الحضاري، كما تمثل القوة الديناميكة المتزنة لتفجير طاقات المجتمع لتقديم أفضل ما لدية وتعزيز مشاركته ومكانته الحضارية عالميا.
وعلى هذا تأسست الهوية والحضارة الإسلامية وسادت لسبع قرون متتالية، تلتها الهوية والحضارة الغربية الأوروبية، ثم الهوية والحضارة الأمريكية، وما لبثت اليابان أن تعيد تنظيم وصناعة هويتها لتنطلق كالصاروح لاستعادة مكانتها الحضارية في العالم، تبعتها سنغافورة التي اكتشفت شفرة البناء الحضاري، وصنعت هوية خاصة بها بالغة العبقرية من خلال استجابتها العالية لتحدياتها بالغة التتعقيد، سرعان ما تحولت إلى دولة كبرى بالرغم من صغر حجمها.
كل هذا بينما يغط العالم العربي في سبات عميق، وانحدار حضاري متدرج بلغ به حدا مخيفا، حيث استسلم كليا وخرج من حلبة التنافس والتدافع الحضاري، نتيجة لأسباب ثقافية واجتماعية وسياسية متعددة، نناقشها تفصيلا في مقال خاص، بينما نلقي الضوء هنا على أهم التحديات والمخاطر التي تواجه الهوية العربية خلال الربع الثاني من القرن 21، تحديدا حتى عام 2050. وذلك أن خطط صناعة الهوية تحتاج إلى جيل كامل يعرف الآن في علم القيم والهوية بعقدين، نتيجة للتقدم التكنولوجي والاتصالات، مع بيان كيفية التعاطي معها، مشعلين بذلك ضوءا أحمر، وجرسا عاليا بحتمية وكيفية اليقظة والمحافظة على ما تبقى من الذات وإعادة ترميمها وبنائها وتطويرها، واللحاق بالركب الحضاري العالمي.
تواجه المنطقة العربية التي تمثل قلب العالم ونقطة التمركز بين قاراته الست، والتي تمتلك رصيدا ثقافيا حضاريا ضاربا في أعماق التاريخ البشري معززا بالديانات الثلاث السماوية، بالإضافة إلى تمازجها حضاريا مع هويات الدول الاستعمارية التي استعمرت غالب دول المنطقة العربية
تحديات ومخاطر حرب الهوية على المنطقة العربية أولا: التحديات الذاتية الداخلية الخاصة 1- غياب الديمقراطية والضعف والفساد السياسي وغياب الشرعية الشعبية لأغلب الأنظمة الحاكمة، نتيجة لغياب الديمقراطية، والفجوة الواسعة بين النظم الحاكمة وشعوبها، مما يجعلها نظما حاكمة ضعيفة فاقدة للشرعية الشعبية الحقيقية للحكم وفاقدة لحب ودعم شعوبها، ومن ثم تقع فريسة سهلة في يد القوى الإقليمية والدولية، فتسعى لتعزيز شرعيتها وقوتها بالاستقواء بالآخر والتبعية له، والتخلي عن هويتها، وفي كثير من الأحيان محاربة هويتها استجابة لتوجيهات ومطالب الدول الكبرى الراعية والحامية، والتحول الاستراتيجي في فكر وتوجه وبوصلة النظم الحاكمة؛ من السعى إلى بناء شعوب ذات ثقافة وهوية قوية وصلبة عقائديا وفكريا وسلوكيا إلى شعوب ذات ثقافة وهوية رخوة ضعيفة سهلة الانقياد، في ما يطلقون عليه ثقافة وهوية مجتمع القطيع. 2- غياب المشروع الوطني الجامع والحاشد لمكونات المجتمع ومقدرات الأمة بما يؤمن مستقبل الشعب والأجيال التالية والدولة بأسرها، وتحول بوصلة النظم الحاكمة إلى مشاريع خاصة للمحافظة على حكمها واستقرارها، فتتجه إلى اختزال مفهوم الهوية إلى صناعة خاصة للدولة تتكون من عناصر ثلاثة: الزعيم والعلم والنشيد، بدلا من مشروع للهوية الوطنية يحفظ للأمة تراثها ويعزز من قوة المجتمع تفكيرا وفهما وسلوكا وأداء وإنجازا ومشاركة حضارية في الحكم، ودعما لقوة الدولةفي ما يطلق عليه مجتمع وثقافة وهوية اللا هوية واللا مشروع والتبعية والعيش في خدمة للآخر. 3- ضعف الوعي المجتمعي تحديدا في خمسة عناصر أساسية هي: أ- غياب الوعي بالذات والممكنات الحضارية، والقدرة على الفعل والإنجاز واحتلال المكانة الطبيعية للعرب والمسلمين في طليعة الدول المتقدمة. ب- اختلال منظومة الوعي العربي بسبب انتشار الكثير من طرق التفكير والمفاهيم والخرافات والمسلّمات الخاطئة. ج- الفهم الخاطئ للدين ودوره الحضاري في البناء والتنمية والعمارة والتحضر، لحساب الكثير من الأيديولوجيات الدينية المتنوعة والتي انحرفت بفهم الدين ودوره الطبيعي في بناء الأمم والحضارات: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (الأنعام: 159). د- غياب الكثير من المفاهيم والقيم الحضارية العابرة للمستقبل واللحاق بالعالم الحديث ومشاركته حضاريا. هـ- عيش المجتمع تحت عقول وأقلام نخب مزيفة تزيف له الواقع والتاريخ بل وحقائق الدين، وتنزع منه مفاعيله الحضارية وتستبدلها بمفاهيم الاستسلام للأمر الواقع والمداهنة والتعايش والتكيف مع الفساد والاستبداد، في ما يطلق عليها بثقافة وهوية مجتمعات الفساد والتخلف. 6- خلل البنية الاجتماعية بسيادة قوانين العصبية العرقية القبلية والدينية والأيديولوجية؛ على حساب العصبية العامة الواحدة للدولة والوطن الذي يجمع ويرعى ويحمي ويصون ويقوي كل المكونات التي تعيش على أرضه، وتداعيات هذه المفاهيم على: أ- التقسيم الضمني للمجتمع إلى فئات وشرائح نوعية وأخرى عادية وأخرى دونية؛ على أسس قبلية وأيديولوجية ومهنية.. إلخ، بعيدا عن مفهوم العدالة والمساواة والمواطنة الكاملة الحقوق، والصلاح والإصلاح والإنجاز لخدمة الوطن. ب- الترشح للوظائف والعمل بالجهات السيادية وفق قوانين العصبية، بعيدا عن المهنية ومعايير الكفاءة والاستحقاق. ج- انتشار الفساد والرشوة والمحاباة وتجاوز القانون.. إلى آخره من الأمراض الاجتماعية المهلكة للمجتمعات والأمم. د- إحساس الفئات المهمشة بالظلم الاجتماعي والخوف من المستقبل، والتقوقع حول ذاتها العرقية للاحتماء بها من عصبية وطغيان الدولة. د- الانقسام والفرقة والصراع البيني والضعف المجتمعي. هـ- انكشاف المجتمع على مصراعيه للاختراق الخارجي الناعم بأشكال ومسميات مختلفة للدفاع عن المهمشين، وحماية حقوق الإنسان.. الخ، في ما يطلق عليها ثقافة وهوية مجتمعات البادية. 7- الإصرار على تدريس التاريخ الصغير والعيش في ظلاله النفسية وتوريثه للأجيال، بالتركيز على محطات الضعف والفتن، والتركيز على الشخصيات الضعيفة واللهو والفن والشعر وغير ذلك؛ في تاريخنا العربي والإسلامى العظيم، مع تعمد تجاهل وإخفاء محطات الوحدة والقوة والانتصارات والإنجازات العلمية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية وسِير الأعلام والعلماء والقادة والعظماء.. الخ، بما يصيب الأجيال العربية بالإحساس بالضعف والخذلان المستمر واليأس والإحباط ووأد الطموح إلى المعالي، وضعف الانتماء إلى الهوية العربية والإسلامية، والبحث عن هوية بديلة أكثر قوة وبهاء، والانصراف عن جادة الفعل والعمل إلى اللهو والتيه، في ما يطلق عليها بثقافة وهوية المجتمعات الدونية، مجتمعات الأطراف التابعة والخادمة لمجتمعات المركز. 8- الهزيمة النفسية والإحساس بالدونية ووأد الطموح والعزة والكرامة في نفوس المجتمع ومسخه إلى مجتمع النملة، الصغير الحلم والتفكير والدور والمهمة والتأثير في المجتمع، حيث يعيش مجتمع النمل على هامش الحياة، مهموما بشأنه الخاص في تدبير وتخزين ما يحتاجه من طعام يضمن حياته، دون أي تفكير في الشأن العام أو طموح وحياة أفضل كما بقية العالم المتقدم من حوله، في ما يطلق عليها بثقافة وهوية مجتمعات النمل. 9- خلق مجتمع التفاهة والشذوذ والاستهلاك، بدلا من مجتمع الفطرة والجدية والاجتهاد الذي ينصرف عن الفعل والفاعلية المؤثرة في الحياة، وينصرف إلى الشكليات دون المضمون، وسفاسف الأمور عن عظائمها، وإلى الفن والرياضة والسياحة والترفيه دون العلم والتكنولوجيا والإنتاج والتصدير، وإلى مراكز التجميل والترفيه، بدلا من مراكز البحوث والدراسات وإنتاج المعرفة، وثقافة الاستهلاك والاستيراد بدلا من الإنتاج والتصدير، وإلى مسابقات الغناء والرقص واللهو بدلا من مسابقات اكتشاف المواهب العلمية والفكرية والقيادية المتنوعة، وإلى مجتمع الشذوذ بدلا من مجتمع الفطرة والجدية والرجولة، وإلى العمل العشوائي وقياس الأداء دون الإنجاز الذي يقيس فاعلية عمل الفرد والإدارة والمؤسسة والوزارة وخطة الدولة، في ما يطلق عليها بثقافة وهوية مجتمعات اللهو والانهيار والإشراف على الفناء. ثانيا: التحديات الخارجية 1- غياب مشروع الهوية الوطنية في مواجهة تدافع طبيعي مع مشاريع عالمية متنوعة للهوية: سنة الله تعالى في التدافع والتي تقرر استمرار التدافع بين القوى والثقافات والهويات والقوى المتعددة إلى نهاية العالم، والتي أكدها ابن خلدون في مقدمته، ويؤكدها كبار الفلاسفة وعلماء الاجتماع (ماركس وهيجل وديكارت وتوينبي ونيتشه)، بحتمية مشروع ثقافي يمهد لمشروع فكري واقتصادي وسياسي. ومن ثم فنحن نجد أن لأمريكا مشروعها الثقافي لفرض ثقافتها وهويتها على العالم باسم العولمة، وكذلك لفرنسا مشروعها الفرانكفوني في تمدد وبسط هويتها على مناطق نفوذها، ولذلك هي متحفزة ضد تهديد هويتها في الداخل الفرنسي عندما شعرت بتهديد ما لهويتها، أيضا لبريطانيا مشروعها الثقافي برابطة دول الكومنولث لتحافظ به على فرض هويتها على مناطق نفوذها، كما أن لليابان مشروعها الخاص بتطوير الهوية اليابانية باستمرار للمحافظة على القوة والحضور الياباني العالمي، وكذلك لسنغافورة مشروعها العبقري للهوية الوطنية السنغافورية والذي حولها من جزيرة نائية إلى دولة في مقدمة العالم.. الخ.
وفي ظل هذا التنافس الكبير على امتلاك مشاريع خاصة للهوية الوطنية، ومناطق نفوذ وتمدد ناعم، يعيش العالم العربي سباتا عميقا وغفلة عن تصميم مشروع للهوية الوطنية ككيان عربي واحد، أو حتى كمشروع للهوية الوطنية للدول القومية تحافظ به على وجودها كدولة وتطورها، مما جعل دول المنطقة العربية ساحة فارغة وجاذبة لكافة مشاريع الهوية التي تسعى للتمدد والسيطرة.
2- مشاريع وبرامج تفكيك الهوية العربية والإسلامية الأصيلة لحساب مشاريع التنصير والتشيع والإلحاد والشذوذ، والتي بلغت أن يتم تناولها على ألسنة ومؤسسات ومشاريع عربية بعقول وألسنة وأموال عربية، بما يؤكد اختراقها وتمكنها وفاعليتها. التوصيات في ظل هذه التحديات والتهديدات والمخاطر لا بد لنا كدول قومية منفردة من مشاريع خاصة لصناعة الهوية الوطنية وفق المعايير والنماج العالمية لصناعة الهوية. ومن المؤكد والمعلوم أن مشاريع الهوية تصنع فكريا وخططيا وتنفذ وطنيا، ولا مانع من الاستفادة من التجارب العالمية ولكن يبقى الأمر وطنيا وخالصا. وهذا ما سنتناوله في مقال خاص عن مفهوم وشروط ومراحل ومعايير صناعة الهوية الوطنية للدولة الحديثة.
Comments